مقدّمةُ المحقق
الحمْدُ لله وحْدهُ والصّلاةُ والسّلامُ علَى منْ لا نبيَّ بعْدَهُ, وأشْهدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ, وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عبْدُهُ ورسُولُهُ أدَّى الأمَانةَ, وبلَّغَ الرِّسَالةَ, ونصَحَ الأمّةَ, وكشَفَ اللهُ بِهِ الغُمَّةَ, وأنَارَ بِهِ السّبيلَ, والصّلاةُ والسّلامُ على أهْلِ بيْتِهِ الطاهرينَ, وسَلامُ اللهِ ورضْوانُه على أزْواجِه أمّهات المؤمنين, ورضيَ اللهُ عنِ الصّحابة أجْمعين, وعلَى كلّ منِ اتّبعهمْ منَ العُلماء والفُقهاء والمُحدّثين والمُفسّرين بإحْسانٍ إلَى يوْمِ الدّينِ ثُمَّ أمَّا بعْدُ:
إنّ الفقْهَ في ورْطةٍ, والفتْوَى في خَطَرٍ عظيمٍ, والفُقهاءُ في فهْمِهمْ لأسْلافِهِمْ إنْ هُمُ إلاَّ يَظُنُّون, وعنْ حقيقَةِ القطيعَةِ معَ الأصُولِ ومُراداتِ اللهِ غَائبُونَ, وزلاَّتِ مُؤسَّسَاتٍ بِعُلَمَائِهَا تَاهُوا عنْ حقيقَةِ التشْريعِ وطريقِ الأوّلينَ, وفي المَناهج الفقهيَّةِ انْحرافَاتٌ أفْضَتْ إلَى ولادَةِ المُشَوَّهِينَ فتَرَى الخِلَافَ شَائِعاً والقَتْلَ مُسْتَحِراًّ ومُسْتَمِراًّ باسْمِ كلِّ يَقينٍ, والجَميعُ يدَّعِي الوصْلَ وحبْلُ اللهِ مَقْطُوعٍ مُصْبِحِينَ, وهذا ما دَعَى كثيرًا منَ المُثقَّفينَ والمُتخصِّصِينَ في الأدَبِ والتاريخِ واللُّغَةِ والعُلُومِ الإنْسانيَّةِ أنْ يُحِسُّوا بخطأ مَا قدْ وقَعَ علَى مُسْتَوى المَنْهَجِ في الفتْوَى فطَالَبُوا العُلَمَاءَ والمُؤسَّسَاتِ الدينيَّةَ بمُراجعَةِ المَنَاهِجِ وتتبُّعِ تلْكُمُ القطيعَة, وأطْلقُوا عليْهِ مشْرُوعَ تجْديدِ الخِطابِ الدينيِّ...
والحقيقةُ كلُّ الحقيقةِ في العوْدَةِ إلى ذلك الزَّمَنِ الجَميل زمَنِ النُّخَبِ الفكريَّةِ والشعريَّةِ والأدبيَّةِ والفقهيَّةِ الجمَاليَّةِ. فنحْنُ في حَاجَةٍ إلَى إحْياءِ تلْكُمُ الثقافَةِ العظيمَةِ, ثَقَافَةِ أهْلِ الصَّفَا في رَسائلِهِمْ, وإمْتاعَاتِ ومُؤَانساتِ التوْحيدي, ورسَالةِ الغُفْرانِ للْفيْلَسُوفِ الشاعرِ المعرّي, ومعَاني سَقْطِ الزنْدِ الجَميلِ, عودَةٌ بنَا إلَى مَدراسِ العُظمَاءِ كالمَدْرسَةِ النظَّاميَّةِ والمدْرسَةِ الجَاحظيَّةِ ومَدارس الصّفا منَ الصُّوفيَّة بجَميلِ فلْسفَاتِهَا وأشْعَارِهَا وسَجْعِهَا ونَثْرِهَا, ومَدَارِسِ المُتكلِّمِينَ في الفكْرِ والحِكْمَةِ, إلَى فلْسَفَةِ ابْنِ رُشْدٍ والفارابي والكِنْدِيِّ والغَزالي وابْنِ طُفَيْلٍ, إلَى فلْسَفَةِ ابْنِ سِينَا, إلَى ابْنِ جُنِّي وابْنِ مَنْظُورٍ وأصْحَابِ الأدَبِ العَالي, إلَى عُظمَاءِ الأصُولِ وعلْمِ الحَديثِ وعلْمِ الرِّجَالِ ومَسَانيدِهِمْ, إلَى مُتُونِهِمْ ودَواوِينِهِمْ, أشْعَارهِمْ وتَراجُمِهِمْ...
إلَى تاريخِنَا الكبيرِ لنَرَى حُسْنَ المُناظراتِ, وجَميلَ المُحَاورَاتِ, وأحْسَنَ العِبَاراتِ, وحُسْنَ الأدَبِ, وفَنَّ الجَدلِ بيْنَهُمْ لنسْتَعْرِضَ فكْرَهُمْ, ونَظْمَ أفْكارِهِمْ, واجْتِهَادَهُمْ وإبْدَاعَاتِهِمْ, وأصُولَ سِيَاقَاتِهِمْ, ونتتبَّعَ عمليَّةَ الخِطَابِ عنْدَهُمْ, ومَنَاهِجَ الكَلامِ لديْهِمْ بعِيداً عنْ سفْسَفِ الخِطابِ, وسُوءِ مَعَاني التَخَاطُبِ, ومُبْتَذَلِ الكَلامِ في الحَاضِرِ والغَائِبِ, إلَى حقيقَةٍ تُطْلَبُ بِمَنْطِقٍ خَلا مِنْ أسْبَابِهِ مَمْزُوجًا بحِقْدٍ وكَراهِيَةٍ وعَداوَةٍ دَفِينَةٍ...
فنحْنُ نتمثَّلُ عَداوةَ أنْفُسِنَا لأسْلافِنَا وتُراثِنَا, وحَاضِرِنَا ومُسْتقْبَلِنَا, فَلَا تبْنِي العَداوةُ شيْئًا منْ حَضَارَتِنَا ومجْدِنَا وعزِّنَا إلاَّ أنْ نتَواضَعَ, ثُمَّ نتوَاضَعَ بعِلْمِنَا وجَهْلِنَا إلَى الواقع, ثُمَّ نبْنِي حيَاتَنَا الفكريَّةَ لَبِنَةً لَبِنَةً وِفْقَ الحيَاةِ والموْتِ والوُجُودِ والعَدَمِ؛ ليَكُونَ الإنْسَانُ مُتوازناً في البنَاءِ ومَنْهَجاً في الحيَاةِ؛ لأنَّ الحَيَاةَ تصْنَعُهَا أنْتَ أيُّهَا الإنْسَانُ, أيُّهَا المُبْدِعُ الفنَّانُ, تصْنَعُهَا بالإيمَانِ وعَزائمِ الرُّوحِ والوِجْدَانِ... ثِقْ أُخَيَّةَ بكَلامِي, وأمْعِنِ النظرَ في البيَانِ تَرَ حُسْنَ المَشَاعِرِ في الكَلَامِ... بالحُبِّ ليْسَ بالعُدْوانِ, بالسِّلْمِ فَنُّ السَّلامِ كَانَ كِتَابُ شيْخِنَا الإمَامُ مُحَمَّدٌ الطاهِرُ بْنُ عاشُور يَرْسُمُ حَقائقَ مُلْحقاتِ مَبَاحِثِهِ بالأقْلامِ, كَاشِفاً عنْ حَقَائِقَ أُغْفِلَتْ في الأنَامِ؛ لتَكُون نوراً تُصَوَّبُ بها انحرافاتٌ في مناهج الأعْلام, فأقول وبالله التوفيقُ وعليْهِ التكلان:
لقد كانَ الشيْخُ في بحْثهِ المقَاصد مُتوازناً ومَوْضُوعياًّ, ومُنْتِجاً بالنظر إلى نتائج الاسْتقراءات, واستقْصَائهِ لكُتُبِ ومَناهج الأوَّلين في الأصُول والمقَاصد, فقدْ أفادَ منْ تَتَبُّعِهِ واسْتبْصَارهِ لمُراداتِ الشَّارعِ منَ النُّصُوص ما هُوَ أعْظمُ وأوْسعُ منَ العللِ في ربْطِ الأحْكَامِ بِهَا, حيْثُ يَرَى أنَّ الاعْتِنَاءَ بوِحْدَةِ الموْضُوعاتِ الفقهيَّةِ المُشتركَةِ في بُعْدٍ مقَاصديٍّ واحِدٍ أوْلى في تحقيق ما تُفْضِي إليْهِ المقَاصِدُ منَ المصَالحِ المُخْتلفَةِ والمُتنوِّعَةِ, ومنْ هُنَا انْصبَّ جُلُّ جُهْدِهِ في الكتَابِ علَى إبْراز دوْرِ المقَاصدِ في تضْييقِ دائرَةِ الخِلافِ بيْنَ الفُقهاءِ في الفُرُوعِ الفقهيَّةِ الكثيرَةِ, وخُصُوصاً منْهَا بابُ المُعاملاتِ الواسِعِ والمُتَجَدِّدِ, كعقد السّلم الذي استثناه النص منَ المَنْعِ مَعَ أصْلِ حُرْمَتِهِ رَفْعاً للحَرج عنِ النَّاس, وخِدْمَةً للمَصالح وتيْسيرهَا, وهُو مَا رجَّحَهُ الشَّارعُ علَى علَّةِ بيْعِ المَعْدُومِ الّتي حُمِلَتْ عليها الحُرمةُ في سائر العقود, وقدْ قاسَ الفقهَاءُعلى السَّلَمِ وعقْد الاسْتصنَاعِ؛ لاشْتراكِهِ في الحِكْمَةِ التي لأجْلها شُرِعَ السَّلمُ, ومتَى وُجِدَتْ حاجَةُ النّاس فثمّ شرْعُ الله, والحاجَةُ يُقرّرُهَا أهْلُ السُّوقِ ويُصَادِقُ عليْها الفقيهُ؛ لتَكُونَ مشْروعَةً.
والحقيقةُ الّتي توصّلْتُ إليها بعْد البحْثِ والتدْقيقِ والمُقارناتِ في إجَازةِ عقْد السَّلَمِ والّذي قصَدَهُ الشَّارعُ منْ هذه المشْروعيَّةِ, أنّ تقْديمَ ثمَنِ البضاعةِ في السّلم مع عدَمِ وجُودِ الحُبُوبِ مثَلاً: (القمح) يُفْضي إلى مصَالحَ مقْصُودةٍ منَ الشارع وعظيمةٍ, فالفلاّحُ الّذي يَحْصُلُ على ثمَنِ البضَاعَةِ يُمَكِّنُهُ ذلك الثمنُ منْ حراثةِ الأرْض وزراعَتِهَا بلْ والتوسُّعِ في اسْتثمارِ أراضٍ أخْرَى لإنْتاج الحُبُوبِ, وإنَّ توَسُّعَ المُزارعين في اسْتغلال الأراضي يَزِيدُ في وفْرَةِ الإنْتاج واكْتفاءِ الدوْلةِ الذاتي, بلْ وتُصَدِّرُ ما يَفِيضُ علَى حَاجتها لاسْتيراد ما تحْتاجُهُ, وهذا كُلُّهُ يُفْضِي إلى زيَادَةِ الطلبِ علَى العُمَّالِ والمُوظّفين وزيادَةِ حركةِ نقْل الحُبُوبِ والمُحافظةِ على مُسْتوى الأسْعارِ المُناسبة للعيْشِ الكريم, وتحْسين اقْتصَادِ الدّوْلةِ واسْتقلاليَّةِ قراراتِهَا ونُفُوذها مع منْع الاحْتكار والاسْتغْلال, ونحْو ذلك من الحِكَمِ الّتي لأجْلِهَا أجَازتِ الشّريعَةُ عقْدَ السَّلَمِ ونحْوهِ منَ العُقُودِ كالصِّنَاعَاتِ بأنواعها, والصيْد البحْري والزّراعَةِ بأنْواعِهَا, ونحْو ذلك من العُقُودِ الّتي يُحدِّدُهَا الفقيهُ المُتمَكِّنُ صاحِبُ الاسْتحْقاقِ العَالِي...
فقدْ نتجَ عنْ درَاسَاتِ الشيْخ طاهر وفَهْمِهِ العميقِ لعِلْمِ أصُولِ الفقْهِ والقواعدِ الفقهيَّةِ, وعِلْمِ الأشْبَاهِ والنظائرِ, وعِلْمِ الحديثِ والتفْسيرِ الذي أبْدَعَ فيهِ في مُؤَلَّفِهِ العَظِيمِ"التحْريرُ والتنْويرُ" ما يَنْفَعُ الفقهَاء, ويُنبّه المُجتهدينَ على ضَرُورةِ الالْتفَاتِ إلَى تجْديدِ الخطابِ الدِّينيِّ, والتوسُّع في الفتوى بما يخدمُ الفكرَ الفقهيَّ, ويُجاري الواقعَ الاقتصاديَّ والتجاريَّ والمصارفَ والبنُوك...
إنّ مَبَاحِثَ الشيخ الجَليلةَ تُفِيدُ البَاحثِينَ اسْتبْصَارِاً لحَقائِقَ جَديدةٍ ومُهمَّةٍ في النِّظَامِ المَعْرِفيِّ المَقاصِدِيِّ, واعْتمَادِهِ بِنَاءَ الفتْوَى.
وسُؤْلي أنْ ينْفَعَ اللهُ تعَالَى بهَذا العمَلِ قُلُوبَ المُحبّينَ وفِكْرَ المُتفقّهينَ, ويَجْعَلَهُ مَدْخَلاً لتغْييرِ أحْوالِ المُسْلمينَ, إنَّهُ وَلِيُّ عِبَادِهِ المُؤْمنينَ, والحَمْدُ للهِ في البَدْءِ وحُسْنِ خَاتمَةِ الّذينَ...
بتاريخ: 1 رجب 1436هــ
التقييم والتعليقات
لا يوجد هناك تعليقات ...